فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

وقوله: {يا أيها الرسل}، يحتمل أن يكون معناه وقلنا يا أيها الرسل فتكون هذه بعض القصص التي ذكر وكيفما حول المعنى فلم يخاطبوا قط مجتمعين، وإنما خوطب كل واحد في عصره، وقالت فرقة: الخطاب بقوله: {يا أيها الرسل} لمحمد عليه السلام، ثم اختلفت فقال بعضها: أقامه مقام الرسل كما قال: الذين قال لهم الناس، وقيل غير هذا مما لا يثبت مع النظر، والوجه في هذا أن يكون الخطاب لمحمد وخرج بهذه الصيغة ليفهم وجيزًا أن هذه المقالة قد خوطب بها كل نبي أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها وهذا كما تقول لتاجر يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا فأنت تخاطبه بالمعنى، وقد اقترن بذلك أَن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه، وقال الطبري: الخطاب بقوله: {يا أيها الرسل} لعيسى، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه، والمشهور عنه أَنه كان يأكل من بقل البرية، ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقدير لمحمد صلى الله عليه وسلم، و{الطيبات} هنا الحلال ملذة وغير ذلك، وفي قوله: {إني بما تعلمون عليم} تنبيه ما على التحفظ وضرب من الوعيد بالمباحثة صلى الله على جميع رسله وأنبيائه وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم.
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وإنّ بكسر الألف وشد النون، وقرأ ابن عامر و أن بفتح الألف وتخفيف أن وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأنّ هذه بفتح الألف وتشديد أن، فالقراءة الأولى بينة على القطع، وأما فتح الألف وتشديد النون فمذهب سيبويه أنها متعلقة بقوله، آخرًا {فاتقون} على تقدير ولأن، أي فاتقون لأن {أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} وهذا عنده نحو قوله عز وجل: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا} [الجن: 18]. و أن عنده في موضع خفض وهي عند الخليل في موضع نصب لما زال الخافض، وقد عكس هذا الذي نسبت إليهما بعض الناس، وقال الفراء أن متعلقة بفعل مضمر تقديره واعملوا واحفظوا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق {أمةٌ واحدةٌ} بالرفع على البدل، وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو {أمة واحدةً} بالنصب على الحال وقيل على البدل من {هذه} وفي هذا نظر، وهذه الآية تقوي أن قوله تعالى: {يا أيها الرسل} [المؤمنون: 51]، إنما هو مخاطبة لجميعهم وأنه بتقرير حضورهم وتجيء هذه الآية بعد ذلك بتقدير وقلنا للناس، وإذا قدرت {أيها الرسل} [المؤمنون: 51] مخاطبة لمحمد عليه السلام قلق اتصال هذه واتصال قوله: {فتقطعوا}، أما أن قوله: {وأنا ربكم فاتقون} وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون بالمعنى فيحسن بعد ذلك اتصال {فتقطعوا}، ومعنى {الأمة} هنا الملة والشريعة والإشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام وهو دين الإسلام، وقوله: {فتقطعوا} يريد الأمم أي افترقوا وليس بفعل مطاوع كما تقول تقطع الثوب بل هو فعل متعد بمعنى قطعوا ومثاله تجهمني الليل وتخوفني السير وتعرقني الزمن، وقرأ نافع {زُبرًا} بضم الزاي جمع زبور، وقرأ الأعمش وأبو عمرو بخلاف {زُبَرًا} بضم الزاي وفتح الباء، فأما القراءة الأولى فتحتمل معنيين احدهما أَن الأمم تنازعت أمرها كتبًا منزلة فاتبعت فرقة الصحف وفرقة التوارة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل ثم حرف الكل وبدل، وهذا قول قتادة، والثاني أنهم تنازعوا أمرهم كتبًا وضعوها وضلالات ألفوها وهذا قول ابن زيد، وأما القراءة الثانية فمعناها فرقًا كزبر الحديد، ثم ذكر تعالى أن كل فريق منهم معجب برأيه وضلالته وهذه غاية الضلال لأن المرتاب بما عنده ينظر في طلب الحق ومن حيث كان ذكر الأمم في هذه الآية مثالًا لقريش خاطب محمدًا عليه السلام في شأنهم متصلًا بقوله: {فذرهم} أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم و الغمرة، ما عمهم من ضلالهم وفعل بهم فعل الماء الغمر لما حصل فيهم، وقرأ عبد الرحمن في غمراتهم، و{حتى حين} أي إلى وقت فتح فيهم غير محدود وفي هذه الآية موادعة منسوخة بآية السيف، ثم وقفهم على خطأ رأيهم في أَن نعمة الله عندهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم وبين تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج، وخبر أن في قوله: {نسارع} بنون العظمة، وفي الكلام على هذه القراءة ضمير عائد تقديره لهم به، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة يسارِع بالياء من تحت وكسر الراء بمعنى أَن إمدادنا يسارع ولا ضمير مع هذه القراءة إلا ما يتضمن الفعل، وروي عن أَبي بكرة المذكور يسارَع بفتح الراء، وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون وسقوط الألف، و{الخيرات} هنا يعم الدنيا، وقوله: {بل لا يشعرون} وعيد وتهديد، والشعور مأخوذ من الشعار وهو ما يلي الإنسان من ثيابه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يا أيها الرسل}.
قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة في آخرين: يعني بالرسل هاهنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وحده، وهو مذهب العرب في مخاطبة الواحد خطاب الجميع، ويتضمن هذا أن الرسل جميعًا كذا أُمِروا، وإِلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة، والزجاج، والمراد بالطيِّبات: الحلال.
قال عمرو بن شرحبيل: كان عيسى عليه السلام يأكل من غَزْل أُمِّه.
قوله تعالى: {وأنَّ هذه أُمَّتُكم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: وأنَّ بالفتح وتشديد النون.
وافق ابنُ عامر في فتح الألف، لكنه سكَّن النون، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {وإِنَّ} بكسر الألف وتشديد النون.
قال الفراء: من فتح، عطف على قوله: {إِني بما تعملون عليم} وبأنَّ هذه أُمَّتُكم، فموضعها خفص لأنها مردودة على ما؛ وإِن شئتَ كانت منصوبة بفعل مضمر، كأنك قلت: واعلموا هذا؛ ومن كسر استأنف.
قال أبو على الفارسي: وأما ابن عامر، فإنه خفف النون المشدَّدة، وإِذا خُفِّفت تعلَّق بها ما يتعلَّق بالمشدَّدة.
وقد شرحنا معنى الآية والتي بعدها في [الأنبياء 92] إِلى قوله: {زُبُرًا} وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني: {زُبَرًا} برفع الزاي وفتح الباء.
وقرأ أبو الجوزاء، وابن السميفع: {زُبْرًا} برفع الزاي وإِسكان الباء.
قال الزجاج: من قرأ {زُبُرًا} بضم الباء، فتأويله: جعلوا دينهم كُتُبًا مختلفة، جمع زَبُور.
ومن قرأ {زُبَرًا} بفتح الباء، أراد قِطَعًا.
قوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بما لديهم فَرِحُون} أي: بما عندهم من الدِّين الذي ابتدعوه مُعْجَبون، يرون أنهم على الحقّ.
وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم أهل الكتاب، قاله مجاهد.
والثاني: أنهم أهل الكتاب ومشركو العرب، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: {فَذَرْهُم في غَمرتهم} وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب: {في غمراتهم} على الجمع.
قال الزجاج: في عَمايتهم وحَيرتهم، {حتى حين} أي: إِلى حين يأتيهم ما وُعدوا به من العذاب.
قال مقاتل: يعني كفار مكة.
فصل:
وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان:
أحدهما: أنها منسوخة بآية السيف.
والثاني: أن معناها التهديد، فهي محكَمة.
قوله تعالى: {أيَحْسَبُون أنَّمَا نُمِدُّهُم به} وقرأ عكرمة، وأبو الجوزاء: {يُمِدُّهم} بالياء المرفوعة وكسر الميم.
وقرأ أبو عمران الجوني: {نَمُدُّهُم} بنون مفتوحة ورفع الميم، قال الزجاج: المعنى: أيحسبون أن الذي نمدهم به {من مال وبنين} مجازاة لهم؟! إِنما هو استدراج، {نُسَارِعُ لهم في الخيرات} أي: نسارع لهم به في الخيرات.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وأيوب السختياني: {يُسَارِعُ} بياء مرفوعة وكسر الراء، وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل مثله، إِلا أنهما فتحا الراء، وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: {يُسْرَعُ} بياء مرفوعة وسكون السين ونصب الراء من غير ألف.
قوله تعالى: {بل لا يَشْعُرُون} أي: لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: روى الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّها الناس إن الله طيّب لا يَقْبَل إلا طيبًا وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجلَّ يُطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا ربِّ ومَطْعَمُه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِيَ بالحرام فأنَّى يستجاب لذلك».
الثانية: قال بعض العلماء: والخطاب في هذه الآية للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه أقامه مقام الرسل؛ كما قال: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني نُعيم بن مسعود.
وقال الزجاج: هذه مخاطبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ودلّ الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا؛ أي كلوا من الحلال.
وقال الطبريّ: الخطاب لعيسى عليه السلام؛ روي أنه كان يأكل من غزل أمه.
والمشهور عنه أنه كان يأكل من بقل البَرِّيّة.
ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقديره لمحمد صلى الله عليه وسلم تشريفًا له.
وقيل: إن هذه المقالة خوطب بها كل نبيّ؛ لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها.
فيكون المعنى: وقلنا يا أيها الرسل كلوا من الطيبات؛ كما تقول لتاجر: يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا؛ فأنت تخاطبه بالمعنى.
وقد اقترن بذلك أن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه، فلم يخاطبوا قطّ مجتمعين صلوات الله عليهم أجمعين، وإنما خوطب كل واحد في عصره.
قال الفرّاء: هو كما تقول للرجل الواحد: كُفُّوا عنا أذاكم.
الثالثة: سوّى الله تعالى بين النبيّين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} صلى الله على رسله وأنبيائه.
وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم.